الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***
قال رضي الله عنه: اعلم بأن القسم الرابع الذي بيناه في الفصل المتقدم يشتمل على هذين الوجهين، وهو القياس والاستحسان عندنا، وقد طعن بعض الفقهاء في تصنيف له على عبارة علمائنا في الكتب: إلا أنا تركنا القياس واستحسنا، وقال: القائلون بالاستحسان يتركون العمل بالقياس الذي هو حجة شرعية ويزعمون أنهم يستحسنون ذلك، وكيف يستحسن ترك الحجة والعمل بما ليس بحجة لاتباع هوى أو شهوة نفس؟ فإن كانوا يريدون ترك القياس الذي هو حجة فالحجة الشرعية هو حق وماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن كانوا يريدون ترك القياس الباطل شرعا فالباطل مما لا يشتغل بذكره. وقد ذكروا في كتبهم في بعض المواضع أنا نأخذ بالقياس، فإن كان المراد هذا فكيف يجوزون الاخذ بالباطل. وذكر من هذا الجنس ما يكون دليل قلة الحياء وقلة الورع وكثرة التهور لقائله. فنقول وبالله التوفيق: الاستحسان لغة: وجود الشئ حسنا، يقول الرجل: استحسنت كذا: أي اعتقدته حسنا على ضد الاستقباح، أو معناه: طلب الاحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} وهو في لسان الفقهاء نوعان: العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولا إلى آرائنا نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى: {متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي. وكذلك قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولا يظن بأحد من الفقهاء أنه يخالف هذا النوع من الاستحسان. والنوع الآخر هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الاصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، فإن العمل به هو الواجب، فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل التأمل على معنى أنه يمال بالحكم عن ذلك الظاهر لكونه مستحسنا لقوة دليله، وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد، فإن أهل النحو يقولون: هذا نصب على التفسير، وهذا نصب على المصدر، وهذا نصب على الظرف، وهذا نصب على التعجب، وما وضعوا هذه العبارات إلا للتمييز بين الادوات الناصبة. وأهل العروض يقولون: هذا من البحر الطويل، وهذا من البحر المتقارب، وهذا من البحر المديد، فكذلك استعمال علمائنا عبارة القياس والاستحسان للتمييز بين الدليلين المتعارضين، وتخصيص أحدهما بالاستحسان لكون العمل به مستحسنا، ولكونه مائلا عن سنن القياس الظاهر، فكان هذا الاسم مستعارا لوجود معنى الاسم فيه، بمنزلة الصلاة فإنها اسم للدعاء ثم أطلقت على العبادة المشتملة على الاركان من الافعال والاقوال لما فيها من الدعاء عادة. ثم استحسان العمل بأقوى الدليلين لا يكون من اتباع الهوى وشهوة النفس في شئ. وقد قال الشافعي في نظائر هذا: أستحب ذلك. وأي فرق بين من يقول أستحسن كذا، وبين من يقول أستحبه؟ بل الاستحسان أفصح اللغتين، وأقرب إلى موافقة عبارة الشرع في هذا المراد. وظن بعض المتأخرين من أصحابنا أن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس في موضع الاستحسان، وشبه ذلك بالطرد مع المؤثر، فإن العمل بالمؤثر أولى وإن كان العمل بالطرد جائزا. قال رضي الله عنه: وهذا وهم عندي فإن اللفظ المذكور في الكتب في أكثر المسائل: إلا أنا تركنا هذا القياس، والمتروك لا يجوز العمل به، وتارة يقول إلا أني أستقبح ذلك، وما يجوز العمل به من الدليل شرعا فاستقباحه يكون كفرا، فعرفنا أن الصحيح ترك القياس أصلا في الموضع الذي نأخذ بالاستحسان، وبه يتبين أن العمل بالاستحسان لا يكون مع قيام المعارضة ولكن باعتبار سقوط الاضعف بالاقوى أصلا. وقد قال في كتاب السرقة: إذا دخل جماعة البيت وجمعوا المتاع فحملوه على ظهر أحدهم فأخرجه وخرجوا معه: في القياس القطع على الحمال خاصة، وفي الاستحسان يقطعون جميعا. وقال في كتاب الحدود: إذا اختلف شهود الزنا في والزاويتين في بيت واحد: في القياس لا يحد المشهود عليه، وفي الاستحسان يقام الحد. ومعلوم أن الحد يسقط بالشبهة وأدنى درجات المعارض ايراث الشبهة، فكيف يستحسن إقامة الحد في موضع الشبهة. وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: تصحح ردة الصبي استحسانا. ومعلوم أن عند قيام دليل المعارضة يرجح الموجب للاسلام وإن كان هو أضعف كالمولود بين كافر ومسلمة، وكيف يستحسن الحكم بالردة مع بقاء دليل موجب الاسلام، فعرفنا أن القياس متروك أصلا في الموضع الذي يعمل فيه بالاستحسان، وإنما سميناهما تعارض الدليلين باعتبار أصل الوضع في كل واحد من النوعين، لا أن بينهما معارضة في موضع واحد. والدليل على أن المراد هذا ما قال في كتاب الطلاق: إذا قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق فقالت: قد حضت فكذبها الزوج فإنها لا تصدق في القياس باعتبار الظاهر وهو أن الحيض شرط الطلاق كدخولها الدار وكلامها زيدا، وفي الاستحسان تطلق، لأن الحيض شئ في باطنها لا يقف عليه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه بمنزلة المحبة والبغض. قال: وقد يدخل في هذا الاستحسان بعض القياس يعني به أن في سائر الاحكام المتعلقة بالحيض قبلنا قولها نحو حرمة الوطئ وانقضاء العدة، فاعتبار هذا الحكم بسائر الاحكام نوع قياس، ثم ترك القياس الأول أصلا لقوة دليل الاستحسان، وهو أنها مأمورة بالاخبار عما في رحمها منهية عن الكتمان، قال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} ومن ضرورة النهي عن الكتمان كونها أمينة في الاظهار، وإليه أشار أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: من الامانة أن تؤتمن المرأة على ما في رحمها. فصار ذلك القياس متروكا باعتراض هذا الدليل القوي الموجب للعمل به. فالحاصل: أن ترك القياس يكون بالنص تارة، وبالاجماع أخرى، وبالضرورة أخرى. فأما تركه بالنص فهو فيما أشار إليه أبو حنيفة رحمه الله في أكل الناسي للصوم: لولا قول الناس لقلت يقضي. يعني به رواية الاثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نص يجب العمل به بعد ثبوته واعتقاد البطلان في كل قياس يخالفه. وهذا اللفظ نظير ما قال عمر رضي الله عنه في قصة الجنين: لقد كدنا أن نعمل برأينا فيما فيه أثر. وكذلك القياس يأبى جواز السلم باعتبار أن المعقود عليه معدوم عند العقد، تركناه بالنص وهو الرخصة الثابتة بقوله عليه السلام: (ورخص في السلم) وأما ترك القياس بدليل الاجماع فنحو الاستصناع فيما فيه للناس تعامل، فإن القياس يأبى جوازه، تركنا القياس للاجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا (وهذا) لأن القياس فيه احتمال الخطأ والغلط، فبالنص أو الاجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه، فيكون واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه. وأما الترك لاجل الضرورة فنحو الحكم بطهارة الآبار والحياض بعدما نجست، والحكم بطهارة الثوب النجس إذا غسل في الاجانات، فإن القياس يأبى جوازه، لأن ما يرد عليه النجاسة يتنجس بملاقاته، تركناه للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس، فإن الحرج مدفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ فيه بالقياس فكان متروكا بالنص. وكذلك جواز عقد الاجارة فإنه ثابت بخلاف القياس لحاجة الناس إلى ذلك، فإن العقد على المنافع بعد وجودها لا يتحقق لانها لا تبقى زمانين فلا بد من إقامة العين المنتفع بها مقام الاجارة في حكم جواز العقد لحاجة الناس إلى ذلك. ثم كل واحد منهما نوعان في الحاصل: فأحد نوعي القياس ما ضعف أثره وهو ظاهر جلي، والنوع الآخر منه ما ظهر فساده واستتر وجه صحته وأثره. وأحد نوعي الاستحسان ما قوي أثره وإن كان خفيا، والثاني ما ظهر أثره وخفي وجه الفساد فيه. وإنما يكون الترجيح بقوة الاثر لا بالظهور ولا بالخفاء، لما بينا أن العلة الموجبة للعمل بها شرعا ما تكون مؤثرة، وضعيف الاثر يكون ساقطا في مقابلة قوي الاثر ظاهرا كان أو خفيا، بمنزلة الدنيا مع العقبى. فالدنيا ظاهرة والعقبى باطنة، ثم ترجح العقبى حتى وجب الاشتغال بطلبها والاعراض عن طلب الدنيا لقوة الاثر من حيث البقاء والخلود والصفاء، فكذلك القلب مع النفس والعقل مع البصر. وبيان ما يسقط اعتباره من القياس لقوة الاثر الاستحسان الذي هو القياس المستحسن في سؤر سباع الطير، فالقياس فيه النجاسة اعتبارا بسؤر سباع الوحش بعلة حرمة التناول، وفي الاستحسان لا يكون نجسا لأن السباع غير محرم الانتفاع بها، فعرفنا أن عينها ليست بنجسة، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حرمة الاكل، لانها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها ولعابها يتجلب من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير، لانها تأخذ الماء بمنقارها ثم تبتلعه ومنقارها عظم جاف، والعظم لا يكون نجسا من الميت فكيف يكون نجسا من الحي. ثم تأيد هذا بالعلة المنصوص عليها في الهرة، فإن معنى البلوى يتحقق في سؤر سباع الطير، لانها تنقض من الهواء ولا يمكن صون الاواني عنها خصوصا في الصحارى، وبهذا يتبين أن من ادعى أن القول بالاستحسان قول بتخصيص العلة فقد أخطأ، لأن بما ذكرنا تبين أن المعنى الموجب لنجاسة سؤر سباع الوحش الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وقد انعدم ذلك في سباع الطير فانعدم الحكم لانعدام العلة وذلك لا يكون من تخصيص العلة في شئ، وعلى اعتبار الصورة يتراءى ذلك ولكن يتبين عند التأمل انعدام العلة أيضا، لأن العلة وجوب التحرز عن الرطوبة النجسة التي يمكن التحرز عنها من غير حرج، وقد صار هذا معلوما بالتنصيص على هذا التعليل في الهرة ففي كل موضع ينعدم بعض أوصاف العلة كان انعدام الحكم لانعدام العلة فلا يكون تخصيصا وبيان الاستحسان الذي يظهر أثره ويخفى فساده مع القياس الذي يستتر أثره ويكون قويا في نفسه حتى يؤخذ فيه بالقياس ويترك الاستحسان فيما يقول في كتاب الصلاة: إذا قرأ المصلي سورة في آخرها سجدة فركع بها في القياس تجزيه، وفي الاستحسان لا تجزيه عن السجود، وبالقياس نأخذ، فوجه الاستحسان أن الركوع غير السجود وضعا، ألا ترى أن الركوع في الصلاة لا ينوب عن سجود الصلاة فلا ينوب عن سجدة التلاوة بطريق الأولى، لأن القرب بين ركوع الصلاة وسجودها أظهر من حيث إن كل واحد منهما موجب التحريمة، ولو تلا خارج الصلاة فركع لها لم يجز عن السجدة ففي الصلاة أولى، لأن الركوع هنا مستحق لجهة أخرى وهناك لا، وفي القياس قال: الركوع والسجود يتشابهان، قال تعالى: {وخر راكعا}: أي ساجدا، ولكن هذا من حيث الظاهر مجاز محض، ووجه الاستحسان من حيث الظاهر اعتبار شبه صحيح ولكن قوة الاثر للقياس مستتر ووجه الفساد في الاستحسان خفي. وبيان ذلك أنه ليس المقصود من السجدة عند التلاوة عين السجدة، ولهذا لا تكون السجدة الواحدة قربة مقصودة بنفسها حتى لا تلزم بالنذر إنما المقصود إظهار التواضع وإظهار المخالفة للذين امتنعوا من السجود استكبارا منهم، كما أخبر الله عنهم في مواضع السجدة. قلنا: ومعنى التواضع يحصل بالركوع ولكن شرطه أن يكون بطريق هو عبادة وهذا يوجد في الصلاة، لأن الركوع فيها عبادة كالسجود ولا يوجد خارج الصلاة، ولقوة الاثر من هذا الوجه أخذنا بالقياس وإن كان مستترا وسقط اعتبار الجانب الآخر في مقابلته. وكذلك قال في البيوع: إذا وقع الاختلاف بين المسلم إليه ورب السلم في ذرعان المسلم فيه في القياس يتحالفان، وبالقياس نأخذ، وفي الاستحسان القول قول المسلم إليه. ووجه الاستحسان أن المسلم فيه مبيع فالاختلاف في ذرعانه لا يكون اختلافا في أصله بل في صفته من حيث الطول والسعة، وذلك لا يوجب التحالف كالاختلاف في ذرعان الثوب المبيع بعينه. ووجه القياس أنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم وذلك يوجب التحالف، ثم أثر القياس مستتر ولكنه قوي من حيث إن عند السلم إنما يعقد بالاوصاف المذكورة لا بالاشارة إلى العين، فكان الموصوف بأنه خمس في سبع غير الموصوف بأنه أربع في ستة، فبهذا يتبين أن الاختلاف هنا في أصل المستحق بالعقد فأخذنا بالقياس لهذا. وقال في الرهن: إذا ادعى رجلان كل واحد منهما عينا في يد رجل أنه مرهون عنده بدين له عليه وأقاما البينة، ففي الاستحسان يقضي بأنه مرهون عندهما، بمنزلة ما لو رهن عينا من رجلين، وهو قياس البيع في ذلك، وفي القياس تبطل البينتان، لانه تعذر القضاء بالرهن لكل واحد منهما في جميعه فإن المحل يضيق عن ذلك، وفي نصفه لأن الشيوع يمنع صحة الرهن، وأخذنا بالقياس لقوة أثره المستتر، وهو أن كل واحد منهما هنا إنما يثبت الحق لنفسه بتسمية على حدة، وكل واحد منهما غير راض بمزاحمة الآخر معه في ملك اليد المستفاد بعقد الرهن، بخلاف الرهن من رجلين فهناك العقد واحد فيمكن إثبات موجب العقد به متحدا في المحل وذلك لا يمكن هنا، وهذا النوع يعز وجوده في الكتب لا يوجد إلا قليلا، فأما النوع المتقدم فهو في الكتب أكثر من أن يحصى. ثم فرق ما بين الاستحسان الذي يكون بالنص أو الاجماع، وبين ما يكون بالقياس الخفي المستحسن أن حكم هذا النوع يتعدى وحكم النوع الآخر لا يتعدى، لما بينا أن حكم القياس الشرعي التعدية، فهذا الخفي وإن اختص باسم الاستحسان لمعنى فهو لا يخرج من أن يكون قياسا شرعيا فيكون حكمه التعدية، والأول معدول به عن القياس بالنص وهو لا يحتمل التعدية كما بينا. وبيانه فيما إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن والمبيع غير مقبوض، في القياس القول قول المشتري، لأن البائع يدعي عليه زيادة في حقه وهو الثمن، والمشتري منكر واليمين بالشرع في جانب المنكر، والمشتري لا يدعي على البائع شيئا في الظاهر إذ المبيع صار مملوكا له بالعقد، ولكن في الاستحسان يتخالفان، لأن المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع إليه عند إحضار أقل الثمنين والبائع منكر لذلك، والبيع كما يوجب استحقاق الملك على البائع يوجب استحقاق اليد عليه عند وصول الثمن إليه، ثم هذا الاستحسان لكونه قياسا خفيا يتعدى حكمه إلى الاجازة وإلى النكاح في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإلى ما لو وقع الاختلاف بين الورثة بعد موت المتبايعين، وإلى ما بعد هلاك السلعة إذا أخلف بدلا بأن قتل العبد المبيع قبل القبض ولو كان الاختلاف في الثمن بينهما بعد قبض المبيع، فإن حكم التخالف عند قيام السلعة فيه يثبت بالنص بخلاف القياس فلا يحتمل التعدية، حتى إذا كان بعد هلاك السلعة لا يجري التخالف سواء أخلف بدلا أو لم يخلف. وفي الاجازة بعد استيفاء المعقود عليه لا يجري التخالف، وإن كان الاختلاف بين الورثة بعد قبض السلعة لا يجري التخالف. وقد يكون القياس الذي في مقابلة الاستحسان الذي قلنا أصله مستحسن ثابت بالاثر نحو ما قال في الصلاة: وإذا نام في صلاته فاحتلم: في القياس يغتسل ويبني كما إذا سبقه الحدث، وذلك مستحسن بالاثر، وفي الاستحسان لا يبني. وفي هذا النوع المأخوذ به هو الاستحسان على كل حال، لانه في الحقيقة رجوع إلى القياس الأصلي ببيان يظهر به أن هذا ليس في معنى المعدول به من القياس الأصلي بالاثر من كل وجه، فلو ثبت الحكم فيه كان بطريق التعدية، والمعدول به عن القياس بالاثر لا يحتمل التعدية، وذلك البيان أن الحدث الصغرى لا يحوجه إلى كشف العورة ولا إلى عمل كثير، وتكثر البلوى فيه من الصلاة، بخلاف الحدث الكبرى، فإذا لم يكن في معناه من كل ما له كان إثبات الحكم فيه بطريق التعدية لا بالنص بعينه وذلك لا وجه له. فتبين بجميع ما ذكرنا أن القول بالاستحسان لا يكون تخصيص العلة في شئ، ولكن في اختبار هذة العبارة اتباع الكتاب والسنة والعلماء من السلف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وكثيرا ما كان يستعمل ابن مسعود هذه العبارة، ومالك بن أنس في كتابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع. وقال الشافعي رحمه الله: أستحسن في المتعة ثلاثين درهما. فعرفنا أنه لا طعن في هذه العبارة، ومن حيث المعنى هو قول بانعدام الحكم عند انعدام العلة، وأحد لا يخالف هذا، فإنا إذا جوزنا دخول الحمام بأجر بطريق الاستحسان فإنما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس لانعدام علة الفساد، وهو أن فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة بل لانها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم، والتسلم وهذا لا يوجد هنا وفي نظائره، فكان انعدام الحكم لانعدام العلة لا أن يكون بطريق تخصيص العلة.
قال رضي الله عنه: زعم أهل الطرد أن الذي يقولون بالعلل المؤثرة ويجعلون التأثير مصححا للعلل الشرعية لا يجدون بدا من القول بتخصيص العلل الشرعية، وهو غلط عظيم كما نبينه. وزعم بعض أصحابنا أن التخصيص في العلل الشرعية جائز وأنه غير مخالف لطريق السلف ولا لمذهب أهل السنة، وذلك خطأ عظيم من قائله، فإن مذهب من هو مرضي من سلفنا أنه لا يجوز التخصيص في العلل الشرعية، ومن جوز ذلك فهو مخالف لاهل السنة، مائل إلى أقاويل المعتزلة في أصولهم. وصورة التخصيص أن المعلل إذا أورد عليه فصل يكون الجواب فيه بخلاف ما يروم إثباته بعلته، يقول موجب علتي كذا إلا أنه ظهر مانع فصار مخصوصا باعتبار ذلك المانع، بمنزلة العام الذي يخص منه بعض ما يتناوله بالدليل الموجب للتخصيص. ثم من جوز ذلك قال: التخصيص غير المناقضة لغة وشرعا وفقها وإجماعا. أما اللغة فلان النقض إبطال فعل قد سبق بفعل نشأه كنقض البنيان. والتخصيص بيان أن المخصوص لم يدخل في الجملة فكيف يكون نقضا؟ ألا ترى أن ضد النقض البناء والتأليف، وضد الخصوص العموم. ومن حيث السنة التخصيص جائز في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والتناقض لا يجوز فيهما بحال. ومن حيث الاجماع فالقياس الشرعي يترك العمل به في بعض المواضع بالنص أو الاجماع أو الضرورة، وذلك يكون تخصيصا لا مناقضة، ولهذا بقي ذلك القياس موجبا للعمل في غير ذلك الموضع، والقياس المنتقض فاسد لا يجوز العمل به في موضع. ومن حيث المعقول إن المعلل متى ذكر وصفا صالحا وادعى أن الحكم متعلق بذلك الوصف فيورد عليه فصل يوجد فيه ذلك الوصف ويكون الحكم بخلافه، فإنه يحتمل أن يكون ذلك لفساد في أصل علته، ويحتمل أن يكون ذلك لمانع منع ثبوت الحكم، ألا ترى أن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب النامي، ثم يمتنع وجوب الزكاة بعد وجوده لمانع وهو انعدام حصول النماء بمضي الحول، ولم يكن ذلك دليل فساد السبب، والبيع بشرط الخيار يمنع ثبوت الملك به لمانع وهو الخيار المشروط لا لفساد أصل السبب وهو البيع. فأما إذا قال هذا الموضع صار مخصوصا من علتي لمانع فقد ادعى شيئا محتملا فيكون مطالبا بالحجة، فإن أبرز مانعا صالحا فقد أثبت ما ادعاه بالحجة فيكون ذلك مقبولا منه وإلا فقد سقط احتجاجه، لأن المحتمل لا يكون حجة، وبه فارق المدعي التخصيص في النص، فإنه لا يطالب بإقامة الدليل على ما يدعي أنه صار مخصوصا مما استدل به من عموم الكتاب والسنة، لانه ليس فيما استدل به احتمال الفساد، فكان جهة التخصيص متعينا فيه بالاجماع، وهنا في علته احتمال الفساد، فما لم يتبين دليل الخصوص فيما ادعى أنه مخصوص من علة لا ينتفي عنه معنى الفساد، فلهذا لا يقبل منه ما لم يتبين المانع. ثم جعل القائل الموانع خمسة أقسام: ما يمنع أصل العلة، وما يمنع تمام العلة، وما يمنع ابتداء الحكم، وما يمنع تمام الحكم، وما يمنع لزوم الحكم، وذلك يتبين كله حسا وحكما، فمن حيث الحس يتبين هذا كله في الرمي، فإن انقطاع الوتر أو انكسار فوق السهم يمنع أصل الفعل الذي هو رمي بعد تمام قصد الرامي إلى مباشرته، وإصابة السهم حائطا أو شجرة ترده عن سننه يمنع تمام العلة بالوصول إلى المرمى، ودفع المرمي إليه عن نفسه بترس يجعله أمامه يمنع ابتداء الحكم الذي يكون الرمي لاجله بعد تمام العلة بالوصول إلى المقصد وذلك الجرح والقتل، ومداواته الجراحة بعدما أصابه حتى اندمل وبرأ يمنع تمام الحكم، وإذا صار به صاحب فراش ثم تطاول حتى أمن الموت منه يمنع لزوم الحكم، بمنزلة صاحب الفالج إذا تطاول ما به وامن الموت منه كان بمنزلة الصحيح في تصرفاته. وفي الحكميات اضافة البيع الحر يمنع انعقاد اصل العلة، واضافة الى مال الغير يمنع انعقاد تمام العلة في حق المالك حتى يتعين جهة البطلان فيه بموته، واشتراط الخيار من المالك لنفسه في البيع يمنع ابتداء الحكم، وثبوت خيار الرؤية للمشترى يمنع الحكم حتى لا تتم الصفقة معه، وثبوت خيار العيب يمنع لزوم الحكم حتى يتمكن من رده بعد تمام الصفقة بالنقض. والحجة لعلمائنا في ابطال القول بتخصيص العلة الاستدلال بالكتاب، والمعقول، والبيان الذى لا يمكن انكاره. اما الكتاب فقوله تعالى: (قل الذكرين حرم ام الانثيين، اما اشتملت عليه ارحام الانثيين نبئونى بعلم ان كنتم صادقين) ففيه مطالبة الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة على وجه لا مدفع لهم فصاروا محجوجين به. وذلك الوجه انهم إذا بينوا احد هذه المعاني ان الحرمة لاجله انتقض عليهم باقرار هم بالحل في الموضع الاخر مع ذلك المعنى فيه، ولو كان التخصيص في علل الاحكام الشرعية جائزا ما كانوا محجوجين، فان احدا لا يعجز من ان يقول امتنع ثبوت حكم الحرمة في ذلك الموضع لمانع، وقد كانوا عقلاء يعتقدون الحل في الموضع الاخر لشبهة أو معنى تصورهم عندهم. وقوله تعالى: (نبئونى بعلم) اشارة الى ان المصير الى تخصيص العلل الشرعية ليس من العلم في شئ فيكون جهلا. واما المعقول فلان العلل الشرعية حكمها التعدية كما قررنا، وبدون التعدية لا تكون صحيحة اصلا، لانها خالية عن موجبها، وإذا جاز قيام المانع في بعض المواضع الذى يتعدى الحكم إليه بهذه العلة جاز قيامه في جميع المواضع فيؤدى الى القول بانها علة صحيحة من غير ان يتعدى الحكم بها الى شئ من الفروع، وقد اثبتنا فساد هذا القول بالدليل. ثم ان كان تعدية الحكم بها الى فرع دليل صحتها فانعدام تعدية الحكم بها الى فرع اخر توجد فيه تلك العلة دليل فسادها، ومع مساواة دليل الصحة والفساد لا تثبت الحجة الشرعية موجبة للعمل يقرره ان المانع الذى يدعى في الموضع المخصوص لابد ان يكون ثابتا بمثل ما ثبتت به العلة الموجبة للحكم، لانه إذا كان دونه لا يصلح دافعا له ولا مانعا لحكمه، وإذا كان مثلا له فذلك المانع يمكن تعليله بعلة توجب تعدية حكم النفى الى سائر الفروع مثل الذى علله المعلل بما اشار إليه من الوصف لاثبات الحكم فيه فتتحقق المعارضة بينهما من هذه الوجه، واى مناقصة ابين من التعارض على وجه المضادة بصفة التساوى ثم قد بينا فيما سبق ان دليل الخصوص يشبه النسخ بصيغة والاستثناء بحكمه، فانه مستقل بنفسه كدليل النسخ ولا يكون ذلك الا مقارنا معنى كالاستثناء، وواحد من هذين الوجهين لا يتحقق في العلل، فان نسخ العلة بالعلة لا يجوز والخصم يجوز ان يكون المانع علة مثل العلة التى يدعى تخصيصها، وكيف يجوز النسخ والعلة فيها احتمال الفساد لكونها مستنبطة بالراى. فإذا ظهر ما يمنع العمل بها اصلا تتعين جهة الفساد فيها، بخلاف النص فانه لا يحتمل جهة الفساد، فالنسخ يكون بيانا لمدة العمل به. ولهذا نوع بيان اخر، فان بالخصوص يتبين انه معمول به في بعض المحال دون البعض، وذلك انما يجوز فيما يجوز القول فيه بالنسخ مع صحته حتى يقال انه معمول به في بعض الاوقات دون البعض، والاستثناء انما يكون في العبارات ليتبين به في بعض الاوقات دون البعض، والاستثناء وذلك لا يتحقق في المعاني الخالصة. فيتبين بما ذكرنا ان القول بالتخصيص مستقيم في النصوص من حيث ان بدليل الخصوص لا يتمكن شبهة الفساد في النص بوجه، بل يتبين ان اسم النص لم يكن متناولا للموضع المخصوص، مع كون العام صحيحا موجبا للعمل قطعا قبل قيام دليل الخصوص، فمن تخصيص العلة لا يجد بدا من القول بتصويب المجتهدين أجمع، وعصمته الاجتهاد عن احتمال الخطأ والفساد كعصمة النص من ذلك، وهذا تصريح بأن كل مجتهد مصيب لما هو الحق حقيقة وأن الاجتهاد يوجب علم اليقين، وفيه قول بوجوب الأصلح، وفيه من وجه آخر قول بالمنزلة بين المنزلتين، وبالخلود في النار لاصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة. فهذا معنى قولنا: إن في القول بجواز تخصيص العلة ميلا إلى أصول المعتزلة من وجوه. ولكنا نقول: انعدام الحكم لا يكون إلا بعد نقصان وصف أو زيادة وصف وهو الذي يسمونه مانعا مخصصا، وبهذه الزيادة والنقصان تتغير العلة لا محالة، فيصير ما هو علة الحكم منعدما حكما، وعدم الحكم عند انعدام العلة لا يكون من تخصيص العلة في شئ. وبيان هذا أن الموجب للزكاة شرعا هو النصاب النامي الحولي، عرف بقوله عليه السلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) والمراد نفي الوجوب، والعلل الشرعية لا توجب الحكم بذواتها بل بجعل الشرع إياها موجبة على ما بينا أن الموجب هو الله تعالى، والاضافة إلى العلة لبيان أن الشرع جعلها موجبة تيسيرا علينا، فإذا كانت بهذا الوصف موجبة شرعا عرفنا أن عند انعدام هذا الوصف ينعدم الحكم لانعدام العلة الموجبة. ولا يلزمنا جواز الاداء لأن العلة الموجبة غير العلة المجوزة للاداء، وقد قررنا هذا فيما سبق أن الجزء الأول من الوقت مجوز أداء الصلاة فرضا وإن لم يكن موجبا للاداء عينا مع أن هذا الوصف مؤثر، فإن النماء الذي هو مقصود إنما يحصل بمضي المدة، ألا ترى أن الوجوب يتكرر بتكرر الحول لتجدد معنى النماء بمضي كل حول، وكذلك البيع بشرط الخيار، فإن الموجب للملك شرعا البيع المطلق ومع شرط الخيار لا يكون مطلقا بل بهذه الزيادة يصير البيع في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وقد بينا أن المتعلق بالشرط غير المطلق، ولصفة الاطلاق تأثير أيضا فإن الموجب للملك بالنص التجارة عن تراض وتمام الرضا يكون عند إطلاق الايجاب لا مع شرط الخيار، فظهر أن العلة تنعدم بزيادة وصف أو نقصان وصف، وهو الحاصل الذي يجب مراعاته، فإنهم يسمون هذا المعنى المغير مانعا مخصصا، فيقولون: انعدام الحكم مع بقاء العلة بوجود مانع وذلك تخصيص كالنص العام يلحقه خصوص فيبقى نصا فيما وراء موضع الخصوص. ونحن نقول: تنعدم العلة حين ثبت المغير فينعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا في العلل مستقيم، بخلاف النصوص فإن بالنص الخاص لا ينعدم النص العام، وعلى هذا الطريق ما استحسنه علماؤنا من القياس في كتبهم، فإن الاستحسان قد يكون بالنص، وبوجود النص تنعدم العلة الثابتة بالرأي، لانه لا معتبر بالعلة أصلا في موضع النص ولا في معارضة حكم النص. وكذلك الاستحسان إذا كان بسبب الاجماع، لأن الاجماع كالنص من كتاب أو سنة في كونه موجبا العلم. وكذلك ما يكون عن ضرورة فإن موضع الضرورة مجمع عليه أو منصوص عليه ولا يعتبر بالعلة في موضع النص فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة وكذلك إذا كان الاستحسان بقياس مستحسن ظهر قوة أثره، لما بينا أن الضعيف في معارضة القوي معدوم حكما. وبيان ما ذكرنا في أن النائم إذا صب في حلقه ماء وهو صائم لم يفسد صومه على قول زفر، لانه معذور كالناسي أو أبلغ منه، وفسد صومه عندنا لفوات ركن الصوم، والعبادة لا تتأدى بدون ركنها فيلزم على هذا الناسي. فمن يجوز تخصيص العلة يقول: انعدم الحكم هناك لوجود مانع وهو الاثر فكان مخصوصا من هذه العلة بهذا الطريق مع بقاء العلة. ونحن نقول: انعدم الحكم في الناسي لانعدام العلة حكما، فإن النسيان لا صنع فيه لاحد من العباد، وقد ثبت بالنص أن الله تعالى أطعمه وسقاه، وصار فعله في الاكل ساقط الاعتبار، وتفويت الركن إنما يكون بفعل الاكل، فإذا لم يبق فعله في الاكل شرعا كان ركن الصوم قائما حكما، وإنما لم يحصل الفطر هنا لانعدام العلة الموجبة للفطر، ثم النائم ليس في معناه، لأن الفعل الذي يفوت به ركن الصوم مضاف إلى العباد هنا فيبقى معتبرا مفوتا ركن الصوم، بخلاف إذا كان مضافا الى من له الحق. وكذلك قلنا: إن المغصوب يصير مملوكا للغاصب عند تقرر الضمان عليه، لأن بهذا السبب لما تقرر الملك في ضمان القيمة وهو حكم شرعى فيقرر الملك فيما يقابله فيلزم على هذا فصل المدبر من حيث انه يتقرر الملك في قيمته للمغصوب منه ولا يثبت الملك في المدبر للغاصب، فمن يرى تخصيص العلة يقول امتنع ثبوت الحكم في المدبر مع وجود العلة لمانع وهو انه غير محتمل للنقل من ملك الى ملك. ونحن نقول: انعدمت العلة الموجبة للملك في المدبر فينعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا لأن العلة تقرر الملك في قيمة هي بدل عن العين وقيمة المدبر ليس ببدل عن عينها، لأن شرط كون القيمة بدلا عن العين ان تكون العين محتملا للتمليك وذلك لا يوجد في المدبر، لأن المدبر جرى فيه عتق من وجه والعتق في المحل يمنع وجوب قيمة العين بسبب الغصب، ولكن الضمان واجب باعتبار الجناية التى تمكنت من الغاصب بتفويت يده، لأن مع جريان العتق فيه من وجه قد بقيت اليد والمالية مستحقة للمالك، فان انعدام ذلك يعتمد ثبوت العتق في بقيت اليد كل وجه، فعرفنا انه انما انعدم الحكم لانعدام العلة بوجود ما يغيرها. وكذلك إذا قلنا في الزنا انه ثبتت به حرمة المصاهرة، لأن ثبوت الحرمة في الأصل باعتبار الولد الذى يتخلق من الماءين فيصير بواسطة الولد امهاتها وبناتها في حقه كامهاته وبناته، وابناؤه وآباؤه في حقها كآبائها وابنائها. ثم الوطء في محل الحرث سبب لحصول هذا الولد فيقام مقامه، ويلزم على هذا انه لا يتعدى الحرمة الى الاخوات والعمات والخالات من الجانبين، فمن يقول بتخصيص العلة يقول: امتنع ثبوت الحكم مع قيام العلة في هذه المواضع للنص أو الاجماع. ونحن نقول، انما انعدم الحكم لانعدام العلة، لأن في النص الموجب لحرمة المصاهرة ذكر الامهات والبنات والاباء والابناء خاصة، فامتداد الحرمة الى الاخوات والعمات والخالات يكون تغييرا واثباتا لحرمة أخرى، لأن المقصور غير الممتد، وانما يعلل المنصوص، ولا يجوز تبديل المنصوص بالتعليل، فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة لا لمانع مع قيام العلة. وكذلك ان الزم ان الموطوءة لا تحرم على الواطئ بواسطة الولد والقرب بينهما امس، فالتخريج هكذا انه انما انعدم الحكم هناك لانعدام العلة باعتبار مورد النص كما قررنا. وهذا اصل كبير، وفقه عظيم. من ترك التعنت وتامل عن انصاف يخرج له جميع ما لم يذكر بما هو من نظائر ما ذكرنا عليه. وعمدة هذا الفقه معرفته دليل الخصوص، فان النصين إذا كان احدهما عاما والاخر خاصا فالعام لا ينعدم بالخاص حقيقة ولا حكما، وليس في واحد من النصين توهم الفساد، فعرفنا ان الخاص كان مخصصا للموضع الذى تناوله من حكم العم مع بقاء العام حجة فيما وراء ذلك وان تمكن فيه نوع شبهة من حيث انه صار كالمستعار فيما هو حقيقة حكم العام. فاما العلة وان كانت مؤثرة ففيها احتمال الفساد والخطاء وهى تحتمل الاعدام حكما، فإذا جاء ما يغيرها جعلناها معدومة حكما في ذلك الموضع، ثم انعدم الحكم لانعدام العلة، ولا يكون فيها شئ من معنى التناقض، ولا يكون من التخصيص في شئ، والله اعلم.
قال رضى الله عنه: فهذا الباب يشتمل على فصول. فالذي نبدأ به الاحتجاج بلا دليل، فان العلماء اختلفوا فيه على أقاويل. قال بعضهم: لا دليل حجة للنافى على خصمه ولا يكون حجة للمثبت. وقال بعضهم: هي حجة دافعة لا موجبة. والذى دل عليه مسائل الشافعي رحمه الله انها حجة دافعة لابقاء ما ثبت بدليله لا لاثبات ما لم يعلم ثبوته بدليله. والذى دل عليه مسائل اصحابنا ان هذا في حق الله تعالى، فاما في حق العباد لا تكون هي حجة لاحد الخصمين على الآخر في الدفع ولا في الايجاب لا في الابقاء ولا في الاثبات ابتداء. فأما الفريق الأول احتجوا وقالوا: أقوى المناظرة ما يكون في إثبات التوحيد وفي أمور النبوة، فقد علمنا الله تعالى الاحتجاج بلا دليل على نفي الشرك بقوله: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجادل المشركين في إثبات نبوته، وكانوا ينفون ذلك وهو يثبت، ثم كانوا لا يطالبون على هذا النفي بشئ فوق قولهم لا دليل على نبوته، واشتغل بعد جحودهم بإثبات نبوته بالآيات المعجزة، والبراهين القاطعة، فعرفنا بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه إلى أن يثبت الخصم ما يدعي ثبوته بالدليل، وهذا لأن النافي إنما لا يطالب بدليل لكونه متمسكا بالأصل وهو عدم الدليل الموجب أو المانع والمحرم أو المبيح، ووجوب التمسك بالأصل إلى أن يظهر الدليل المغير له طريق في الشرع، ولهذا جعل الشرع البينة في جانب المدعي لا في جانب المنكر، لانه متمسك بالأصل وهو أنه لا حق للغير في ذمته ولا في يده وذلك حجة له على خصمه في الكف عن التعرض له ما لم يقم الدليل، وأيد ما ذكرنا قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية، فقد علم نبيه عليه السلام الاحتجاج بعدم الدليل الموجب للحرمة على الذين كانوا يثبتون الحرمة في أشياء كالسائبة والوصيلة والحام والبحيرة، فثبت بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه. وهذا الذي ذهبوا إليه غير موافق لشئ من العلل المنقولة عن السلف في نفي الحكم وإثباته وهو ينتهي إلى الجهل أيضا، فإنا نقول لهذا القائل: لا دليل على الاثبات عندك أو عند غيرك فإن خصمك يدعي قيام الدليل عنده، وكما أن دعواه الدليل عنده لا يكون حجة عليك حتى تبرزه فدعواك عليه أن لا دليل عندي لا يكون حجة عليه، وإن قلت لا دليل عندي فهذا إقرار منك بالجهل والتقصير في الطلب، فكيف يكون حجة على غيرك ! وإن انعدم منك التقصير في الطلب فأنت معذور إذا لم تقف على الدليل وعذرك لا يكون حجة على الغير أصلا، ألا ترى أن في زمان النبي عليه السلام كان الناسخ ينزل فيبلغ ذلك بعض الناس دون البعض ومن لم يبلغه يكون معذورا في العمل بالمنسوخ ولا يكون ذلك حجة له على غيره. فإن قيل: قولكم هذا غير موافق لتعليل السلف فاسد، وقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا خمس في العنبر لأن الاثر لم يرد به. وهذا احتجاج بلا دليل. قلنا: هذا أن لو ذكر هذا اللفظ على سبيل الاحتجاج على من يوجب فيه الخمس وليس كذلك، بل إنما ذكره على وجه بيان العذر لنفسه ثم علل فيه بعلة مؤثرة في موضع الاحتجاج على الغير على ما ذكر محمد رحمه الله، فإنه قال: لا خمس في اللؤلؤ والعنبر. قلت: لم؟ قال: لانه بمنزلة السمك. قلت: وما بال السمك لا يجب فيه الخمس؟ قال: لانه بمنزلة الماء. وهو إشارة إلى مؤثر، فإن الأصل في الخمس الغنائم وإنما يوجب الخمس فيما يصاب مما كان أصله في يد العدو ووقع في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى الغنيمة، والمستخرج من البحار لم يكن في يد العدو قط، لأن قهر الماء مانع قهرا آخر على ذلك الموضع، ثم القياس أن لا يجب الخمس في شئ وإنما أوجب الخمس في بعض الاموال بالاثر، فبين أن ما لم يرد فيه الاثر يؤخذ فيه بأصل القياس، وهذا لا يكون احتجاجا بلا دليل. ثم نقول لهذا القائل: إنك بهذه المقالة تثبت شيئا لا محالة وهو صحة اعتقادك أن لا دليل يوجب إثبات الحكم في هذه الحادثة فعليك الدليل لاثبات ما تدعي صحته عندك، ولا دليل على خصمك لانه ينفي صحة اعتقادك هذا، ولا دليل على النافي بزعمك، ثم قولك لا دليل شئ تقوله عن علم أو لا عن علم؟ فإن زعمت أنك تقوله عن علم فالعلم الذي يحدث للمرء لا يكون إلا بدليل، وإن زعمت أنك تقوله لا عن علم فقد نهيت عن ذلك، قال تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقال تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} الاية، فما يكون مذموما منهيا عنه نصا فكيف يصلح حجة على الغير ! وايد ما ذكرنا قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى، تلك امانيهم) الاية، فقد علم رسوله مطالبة النافي باقامة الدليل وذلك تنصيص على ان لا دليل لا يكون حجة والدليل عليه الخصومات، فان انكار الخصم لا يكون حجة له على المدعى بوجه ما حتى انه بعد ما احضر مرة وجحد إذا طلب احضاره مرة اخرى احضره القاضى، وان طلب ان يكفله بنفسه أو بالعين الذى فيه الدعوى اجيره القاضى على ذلك، وإذا طلب يمينه حلفه على ذلك، فلو كان لا دليل حجة للنافى على خصمه لم يبق للمدعى عليه سبيل بعد انكاره وقوله لا حجة للمدعى. فاما جعل الشرع القول قول المنكر فذلك باعتبار دليل من حيث الظاهر، وهو ان المدعى عين في يده واليد دليل الملك ظاهرا، أو دين في ذمته وذمته بريئة ظاهرا، ومع هذا قوله لا يكون حجة على خصمه وان حلف حتى لا يصير المدعى مقضيا عليه بشئ، ولكنه لا يتعرض له ما لم يات بحجة يثبت بها الحق عليه. يحقق ما قلنا ان الأصل هو التفاوت بين الناس في العلم بالادلة الشرعية، واليه اشار الله تعالى في قوله: (وفوق كل ذى علم عليم) وهذا شبه المحسوس لمن يرجع الى احوال الناس، فقد يقف بعضهم على علم لا يقف عليه البعض، ومع هذا التفاوت لا يتمكن النافي من الاحتجاج بلا دليل الا بعد وقوفه على كل علم يبتنى عليه احكام الشرع، ومن ادعى هذه الدرجة لنفسه منا فهو متعنت لا يناظر، وكيف يتمكن احد من هذه الدعاوى مع قوله تعالى: (وما اوتيتم من العلم الا قليلا) وإذا علمنا يقينا ان المحتج بلا دليل لم يبلغ جميع انواع العلم عرفنا ان استدلاله بما لم يبلغه على الخصم باطل، ولهذا صح هذا النوع من الاحتجاج فيما نص الله تعالى عليه، لأن الله تعالى عالم بالاشياء كلها لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا تخفى عليه خافية، فبإخباره ان لا برهان لمن يدعى الشرك حصل لنا علم اليقين بانه لا دليل على الشرك بوجه. وكذلك قوله تعالى، (قل لا اجد فيما اوحى الى محرما) فقد صار معلوما يقينا انه لا دليل على حرمة ذلك، فكان الاحتجاج صحيحا، ومثله لا يتصور فيما يحتج به النافي على خصمه. ولا نقول بان نفى الكفار نبوة رسول الله وقولهم لا دليل على نبوته كان حجة لهم عليه بوجه، ولكن كان ذلك اظهارا منهم لجهلهم، وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يزيل ذلك الجهل عنهم باظهار المعجزات الدالة على نبوته. فاما اهل المقالة الثابتة فانهم قالوا المنتفى معدوم والمعدوم ليس بشئ وانما يحتاج الى الدليل لاثبات المدلول عليه، ومعلوم ان العدم لا يكون متعلقا بدليل ولا بعدم الدليل، ولكن عدم الدليل يدل عليه كما يدل الحدث على المحدث، ثم الدليل قد يكون قائما على الاثبات عند البعض دون البعض، يقول النافي لا دليل على الاثبات محتمل يجوز ان يكون كما قال وهو انه ليس فيه دليل مشروع عند احد، ويجوز ان يكون عليه دليل عند غيره ولم يبلغه، ودعوى المثبت دليل الاثبات محتمل ايصا يجوز ان يكون صدقا بوجود الدليل عنده، ويجوز ان يكون كذبا أو غلطا فاستوى الجانبان من هذا الوجه، كما ان دعوى المثبت الدليل لا يكون حجة على خصمه ما لم يبرز الدليل لكونه محتملا والمحتمل لا فقول النافي لا دليل لا يكون حجة على خصمه لكونه محتملا ولكنه دافع لدعوى المثبت عنه بطريق المساواة في الاحتمال. فقلنا ان قوله: لا دليل، حجة دافعة لا موجبة. والشافعي يحتج بهذا الكلام ايضا لانه يقول: إذا كان قوله لا دليل مستندا الى دليل لا يخالف ما يقوله يكون دلك الدليل حجة على الخصم لا بمجرد قوله لا دليل. وبيان هذا ان ما يكون محتملا للبقاء من الاحكام والصحة في العلل والجواهر فانه إذا ثبت وجوه بالدليل يكون باقيا ما لم يعترض ما يزيله، الا ترى ان الملك بالشراء متى ثبت، أو الحل بالنكاح متى ثبت، أو الحرمة بالتطليقات الثلاث متى ثبت يكون باقيا، الا يعترض عليه ما يزيله فما يمضي من الازمنة بعد صحة الدليل المثبت للحكم يكون الحكم فيه باقيا بذلك لدليل على احتمال أن يطرأ ما يزيله، وقبل ظهور طريان ما يزيله يكون الحكم ثابتا بذلك الدليل، بمنزلة النص العام فإنه موجب للحكم في كل ما يتناوله على احتمال قيام دليل الخصوص، فما لم يقم دليل الخصوص كان الحكم ثابتا بالعام وكان الاحتجاج به على الخصم صحيحا، فكذلك قول القائل فيما هو منتف لا دليل على إثباته، أو فيما هو ثابت بدليله لا دليل على نفيه يكون احتجاجا بذلك الدليل وذلك الدليل حجة على خصمه، فأما ما لا يستند إلى دليل فلا يبقى فيه إلا الاحتجاج بقوله لا دليل فذلك يكون حجة كما قلتم. وعلى هذا الأصل قال: الصلح على الانكار باطل، لأن نفي المنكر دعوى المدعي يستند إلى دليل وهو المعلوم من براءة ذمته في الأصل أو اليد التي هي دليل لملك له في عين المدعي، فيكون ذلك حجة له على خصمه في إبقاء ما ثبت عليه، وبعد ما ظهرت براءة ذمته في حق المدعي بهذا الدليل يكون أخذه المال رشوة على الكف عن الدعوى ولا يكون ذلك اعتياضا عن حقه فيكون باطلا، بخلاف ما إذا شهد بحرية عبد إنسان ثم اشتراه بعد ذلك فإن الشراء يكون صحيحا ويلزمه الثمن للبائع، لأن نفي البائع حريته ودعواه بقاء الملك له مستند إلى دليل وهو الدليل المثبت للملك له في العبد، فيكون ذلك حجة له على خصمه في إبقاء ملكه، وباعتباره هو إنما يأخذ العوض على ملك له، وباعتباره لا يثبت الاتفاق بينهما على فساد ذلك السبب، فبهذا تعين فيه وجه الصحة ووجب الثمن على المشتري ثم يعتق عليه بعدما دخل في ملكه باعتبار زعمه. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: الدليل المثبت للحكم لا يكون موجبا بقاء الحكم بوجه من الوجوه ولكن بقاؤه بعد الوجود لاستغناء البقاء عن دليل لا لوجود الدليل المنفي. فعرفنا أنه ليس للدليل الذي استند إليه الحكم عمل في البقاء أصلا، وأن دعوى البقاء فيما عرف ثبوته بدليله محتمل كدعوى الاثبات فيما لا يعلم ثبوته بدليله، فكما أن هناك يستوي المثبت والنافي في أن قول كل واحد منهما لا يكون حجة على خصمه بغير دليل فكذلك هنا، وله فارق العام فإنه موجب للحكم في كل ما تناوله قطعا على احتمال قيام دليل الخصوص، فما لم يظهر دليل الخصوص كان الحكم ثابتا بنص موجب له، وهنا الدليل المثبت للحكم غير متعرض للازمنة أصلا فلا يكون ثبوته في الازمنة بعد قيام الدليل بدليل مثبت له، ولهذا لا يكون قيام دليل النفي من دليل الخصوص في شئ بل يكون نسخا، كما بيناه في باب النسخ، يوضحه أنه لما لم يكن ذلك الدليل عاملا الآن في شئ صار قول المتمسك به لا دليل على ارتفاعه كلاما محتملا، كما أن قول خصمه قام الدليل على ارتفاعه كلام محتمل فتتحقق المعارضة بينهما على وجه لا يكون زعم أحدهما حجة على الآخر ما لم يرجح قوله بدليل. وعلى هذا الأصل قلنا في الصلح على الانكار إنه جائز، لأن الدليل المثبت لبراءة ذمة المنكر أو للملك له فيما في يده غير متعرض للبقاء أصلا فكان دعوى المدعي أن المدعي حقي وملكي خبرا محتملا، وإنكار المدعى عليه لذلك خبر محتمل أيضا فكما لا يكون خبر المدعي حجة على المدعى عليه في إلزام التسليم إليه لكونه محتملا، فكذلك خبر المدعي عليه لا يكون حجة على المدعي في فساد الاعتياض عنه بطريق الصلح، ولهذا لو صالحه أجنبي على مال جاز بالاتفاق، ولو ثبت براءة ذمته في حق المدعي بدليل كما ذكره الخصم لم يجز صلحه مع الاجنبي، كما لو أقر أنه مبطل في دعواه ثم صالح مع أجنبي. والدليل عليه فصل الشهادة بعتق العبد على مولاه فإن الشاهد إذا اشتراه صح الشراء ولزمه الثمن لهذا المعنى، وهو أن ما أخبر به الشاهد لكونه محتملا لم يصر حجة على مولى العبد حتى جاز له الاعتياض عنه بالبيع من غيره، فيجوز له الاعتياض عنه بالبيع من الشاهد وإن كان زعمه معتبرا في حقه حتى إنه يعتق كما اشتراه لا من جهته حتى لا يكون ولاؤه له، وما كان ذلك إلا بالطريق الذي قلنا، فإن الدليل الموجب للملك للمولى لا يكون دليل بقاء ملكه بل بقاء الملك بعد ثبوته لاستغنائه عن الدليل المنفي. وعلى هذا الأصل قلنا: مجهول الحال يكون حرا باعتبار الظاهر، ولكن لو جنى عليه جناية فزعم الجاني أنه رقيق لا يلزمه أرش الجناية على الاحرار حتى تقوم البينة على حريته، لأن ثبوت الحرية للحال ليس بدليل موجب لذلك بل باعتبار أصل الحرية لاولاد آدم وذلك لا يجوب البقاء فكان عدواه الحرية لنفسه فئ الحال محتملا ودعوى الغير الرق عليه محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق عليه محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق فيه لغيره ويجعل القول قوله في الحرية، وبالمحتمل لا يثبت دعوى استحقاق أرش الاحرار بسبب الجناية عليه غيره حتى يقيم البينة على حريته، لأن قبل إقامة البينة ليس معه إلا الاحتجاج بلا دليل وذلك دافع عنه ولا يكون حجة له على غيره. وعلى هذا لو قذف إنسانا ثم زعم أنه عبد وقال المقذوب بل هو حر، فإنه لايقام حد الاحرار عليه حتى تقوم البينة للمقذوف على حريته. وكذلك لو قطع يد إنسان ثم زعم أنه عبد وأنه لاقصاص عليه. وكذلك لو شهد في حادثة ثم زعم المشهود عليه أنه عبد فإن شهادته لا تكون حجة حتى تقوم البينة على حريته. والشافعي رحمه الله يخالفنا في جميع ذلك للاصل الذى بينا له. وعلى هذا لو اشترى شقصا من دار فطلب الشفيع الشفعة وقال المشترى ما في يدك مما تدعى به الشفعة ليس بملك لك بل هي ملكى فإنه يكون القول قول مدعى الشفعة في دفع دعوى المشترى عما في يده، ويكون القول قول المشترى في إنكاره حق الشفعة له، حتى إن لشفيع ما لم يقم البينة على أن العين الذى في يده ملكه لا يستحق الشفعة عندنا، لأن خبر كل واحد منهما محتمل فلا يكون حجة على خصمه في استحقاق ما في يده. وعند الشافعي ملك الشفيع فيما في يده ثابت باعتبار أن قوله مستند إلى دليل ثبت فيستحق به الشفعة. ونظير ما قاله علماؤنا قول المولى لعبده: إن لم أدخل اليوم الدار فأنت حر، ثم قال المولى بعد مضى اليوم قد دخلت وقال العبد لم تدخل، فإن القول قول المولى حتى لا يعتق العبد، ومعلوم أن قول العبد مستند إلى دليل من حيث الظاهر وهو أن الأصل عدم الدخول ولكن لما كان قوله في الحال محتملا قول المولى كذلك لم يثبت استحقاقه على المولى بما هو محتمل. وكذلك المفقود فإنه لا يرث أحدا من أقاربه إذا مات قبل أن يظهر حاله ومعلوم أن بقاءه حيا مستند إلى دليل وهو ما علم من حياته، ولكن لما لم يكن ذلك دليلا للبقاء اعتبر في الحال الاحتمال، فقيل لا يرثه أحد لاحتمال بقائه حيا، ولا يرث أحدا لاحتمال أنه ميت. فإن قيل: عندي إذا استند قوله إلى دليل إنما يقبل قوله على خصمه في إبقاء ما هو مقصود له: في مسألة العتق لا مقصود للعبد في نفى دخول المولى الدار وإنما مقصوده في العتق ودعواه العتق ليس بمستند إلى دليل مثبت له. وكذلك عدوى من يدعى حياة المفقود بعد ما مات قريب له ليس بمقصود للمدعى حتى يعتبر فيه الاستناد إلى دليله، فأما دعوى المنكر براءة ذمته أو كون ما في يده ملكا له مقصود له وهو يستند إلى دليل كما بينا. وكذلك دعوى مجهول الحال الحرية لنفسه مقصود له. ودعوى الشفيع الملك لنفسه فيما في يده مقصود له، فإذا كان هذا مستندا إلى دليله وهو مقصود له كان حجة له على خصمه. قلنا: لا فرق، فإن دعوى المنكر فساد الصلح غير مقصود له ولكن يترتب عليه ما هو المقصود له وهو سقوط المطالبة عنه بتسليم ما التزمه بالصلح، كما أن دعوى العبد أن المولى لم يدخل الدار غير مقصود له ولكن يترتب عليه ما هو مقصود له وهو عتقه باعتبار وجود الشراط. ثم هناك لكون ما أخبر به محتملا لم يجعل حجة على خصمه، ولا يعتبر استناده إلى دليل باعتبار الأصل، فكذلك في مسألة الصلح فصل ومن الاحتجاج بلا دليل الاستدلال باستصحاب الحال، وذلك نحو ما يقول بعض أحصابنا في حكم الزكاة في مال الصبى إن الأصل عدم الوجوب فيستصحبه حتى يقوم دليل الوجوب، وفى الاستئناف أن وجوب الحقتين في مائة وعشرين ثابت بالنص والاجماع فيجب استصحابه حتى يقوم الدليل المغير، وهذا النوع من التعليل باطل، فإن ثبوت العدم وإن كان بدليل معدم فذلك لا يوجب بقاء العدم، كما أن الدليل الموجد للشئ لا يكون دليل بقائه موجودا فكذلك الدليل المثبت للحكم لا يكون دليل بقائه ثابتا، ألا ترى أن عدم الشراء لا يمنع وجود الشراء في المستقبل، والشراء الموجب للملك لا يمنع انعدام الملك بدليله في المستقبل، ولكن البقاء بعد الوجود لاستغنائه عن الدليل، لا لأن الدليل المثبت له موجب لبقائه، كما أن ثبوت الحياة بسببه لا يكون دليل بقاء الحياة، يوضحه أن بعد ثبوت حكم هو نفي إيجاده يستدعي دليلا، فمن ادعى وجوده احتاج إلى إثباته على خصمه بدليل. وكذلك من ادعى بقاءه منفيا فهو محتاج إلى إثباته بدليله على الخصم، إذ الدليل الأول غير موجب لذلك فليس أحدهما بالاحتجاج على صاحبه لعدم قيام الدليل بأولى من الآخر، وما كان البقاء فيما يحتمل البقاء بعد الوجود إلا نظير الوجود في الاعراض التي لا تبقى وقتين، فإن وجود شئ منه بدليل لا يكون دليل وجود مثله في الوقت الثاني. وبيان هذا في البعير الزائد على المائة والعشرين فإن عند الخصم ينتهي به عفو الحقتين فيتم به نصاب ثلاث بنات لبون. وعندنا هو ابتداء العفو لنصاب آخر، وليس في إيجاب الحقتين في مائة وعشرين ما يدل على واحد من الامرين، فكان الاحتجاج به لايجاب الحقتين بعد هذه الزيادة عند كمال الحول يكون احتجاجا بلا دليل. ثم استصحاب الحال ينقسم أربعة أقسام: أحدها استصحاب حكم الحال مع العلم يقينا بانعدام الدليل المغير، وذلك بطريق الخبر عمن ينزل عليه الوحي أو بطريق الحس فيما يعرف به، وهذا صحيح قد علمنا الاستدلال به في قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية، وهذا لانه لما علم يقينا بانعدام الدليل المغير وقد كان الحكم ثابتا بدليله وبقاؤه يستغني عن الدليل فقد علم بقاؤه ضرورة. والثاني: استصحاب حكم الحال بعد دليل مغير ثابت بطريق النظر والاجتهاد بقدر الوسع، وهذا يصلح لابلاء العذر وللدفع ولا يصلح للاحتجاج به على غيره، لأن المتأمل وإن بالغ في النظر فالخصم يقول قام الدليل عندي بخلافه، وبالتأمل والاجتهاد لا يبلغ المرء درجة يعلم بها يقينا أنه لم يخف عليه شئ من الادلة، بل يبقى له احتمال اشتباه بعض الادلة عليه، وما كان في نفسه محتملا عنده لا يمكنه أن يحتج به على غيره. والثالث: استصحاب حكم الحال قبل التأمل والاجتهاد في طلب الدليل المغير وهذا جهل، لأن قبل الطلب لا يحصل له شئ من العلم بانتفاء الدليل المغير ظاهرا ولا باطنا، ولكنه يجهل ذلك بتقصير منه في الطلب، وجهله لا يكون حجة على غيره ولا عذرا في حقه أيضا إذا كان متمكنا من الطلب إلا أن لا يكون متمكنا منه. وعلى هذا قلنا: إذا أسلم الذمي في دار الاسلام ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى عليه زمان فعليه قضاء ما ترك، بخلاف الحربي إذا أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان. وعلى هذا قلنا: من لم يجتهد بعد الاشتباه في أمر القبلة حتى صلى إلى جهة فإنه لا تجزيه صلاته ما لم يعلم أنه أصاب، بخلاف ما إذا اجتهد وصلى إلى جهة فإنه تجزيه صلاته وإن تبين أنه أخطأ. والنوع الرابع: استصحاب الحال (لاثبات الحكم ابتداء، وهذا خطأ محض وهو ضلال محض ممن يتعمده لأن استصحاب الحال) كاسمه، وهو التمسك بالحكم الذي كان ثابتا إلى أن يقوم الدليل المزيل، وفي إثبات الحكم ابتداء لا يوجد هذا المعنى، ولا عمل لاستصحاب الحال فيه صورة ولا معنى، وقد بينا في مسألة المفقود أن الحياة المعلومة باستصحاب الحال يكون حجة في إبقاء ملكه في ماله على ما كان، ولا يكون حجة في إثبات الملك له ابتداء في مال قريبه إذا مات. وبعض أصحاب الشافعي يجعلونه حجة في ذلك، لا باعتبار أنهم يجوزون إثبات الحكم ابتداء باستصحاب الحال، بل باعتبار أنه يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث، فإن الوراثة خلافة، وقد بينا أن عنده استصحاب الحال فيما يرجع إلى الابقاء حجة على الغير. ولكنا نقول: هذا البقاء في حق المورث، فأما في حق الوارث فصفة المالكية تثبت له ابتداء واستصحاب الحال لا يكون حجة فيه بوجه. وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ادعى عينا في يد إنسان أنه له ميراث من أبيه وأقام الشاهدين فشهدا أن هذا كان لابيه لم تقبل هذه الشهادة. وفي قول أبي يوسف الآخر تقبل، لأن الوراثة خلافة فإنما يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث، ولهذا يرد بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه المورث، وما ثبت فهو باق لاستغناء البقاء عن دليل. وهما يقولأن في حق الوارث: هذا في معنى ابتداء التملك، لأن صفة المالكية تثبت له في هذا المال بعد أن لم يكن مالكا، وإنما يكون البقاء في حق المورث أن لو حضر بنفسه يدعي أن العين ملكه فلا جرم إذا شهد الشاهدان أنه كان له كانت شهادة مقبولة كما إذا شهدا أنه له، فأما إذا كان المدعي هو الوارث وصفة المالكية للوارث تثبت ابتداء بعد موت المورث فهذه الشهادة لا تكون حجة للقضاء بالملك له، لأن طريق القضاء بها استصحاب الحال وذلك غير صحيح. فصل ومن هذه الجملة الاستدلال بتعارض الاشباه، وذلك نحو احتجاج زفر رحمه الله في أنه لا يجب غسل المرافق في الوضوء، لأن من الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فمع الشك لا تثبت فرضية الغسل فيما هو غاية بالنص، لأن هذا في الحقيقة احتجاج بلا دليل لاثبات حكم، فإن الشك الذي يدعيه أمر حادث فلا يثبت حدوثه إلا بدليل. فإن قال: دليله تعارض الاشباه. قلنا: وتعارض الاشباه أيضا حادث فلا يثبت إلا بالدليل. فإن قال: الدليل عليه ما أعده من الغايات مما يدخل بالاجماع وما لا يدخل بالاجماع. قلنا: وهل تعلم أن هذا المتنازع فيه من أحد النوعين بدليل؟ فإن قال أعلم ذلك. قلنا: فإذن عليك أن لا تشك فيه بل تلحقه بما هو من نوعه بدليله. وإن قال: لا أعلم ذلك. قلنا: قد اعترفت بالجهل، فإن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه وذلك لا يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل. فصل ومن هذه الجملة الاحتجاج بالاطراد على صحة العلة إما وجودا أو وجودا وعدما، فإنه احتجاج بلا دليل في الحقيقة، ومن حيث الظاهر هو احتجاج بكثرة أداء الشهادة، وقد بينا أن كثرة أداء الشهادة وتكرارها من الشاهد لا يكون دليل صحة شهادته. ثم الاطراد عبارة عن سلامة الوصف عن النقوض والعوارض، والناظر وإن بالغ في الاجتهاد بالعرض على الاصول المعلومة عنده فالخصم لا يعجز من أن يقول عندي أصل آخر هو مناقض لهذا الوصف أو معارض، فجهلك به لا يكون حجة لك علي، فتبين من هذا الوجه أنه احتجاج بلا دليل، ولكنه فوق ما تقدم في الاحتجاج به من حيث الظاهر، لأن من حيث الظاهر الوصف صالح، ويحتمل أن يكون حجة للحكم إذا ظهر أثره عند التأمل، ولكن لكونه في الحقيقة استدلالا على صحته بعدم النقوض والعوارض لم يصلح أن يكون حجة لاثبات الحكم. فإن قيل: أليس أن النصوص بعد ثبوتها يجب العمل بها، واحتمال ورود الناسخ لا يمكن شبهة في الاحتجاج بها قبل أن يظهر الناسخ فكذلك ما تقدم؟ قلنا: أما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا احتمال للنسخ في كل نص كان حكمه ثابتا عند وفاته، فأما في حال حياته فهكذا نقول: إن الاحتجاج به لاثبات الحكم ابتداء صحيح، فأما لابقاء الحكم أو لنفي الناسخ لا يكون صحيحا، لأن احتمال بقاء الحكم واحتمال قيام دليل النسخ فيه كان بصفة واحدة، وقد قررنا هذا في باب النسخ. ثم الطرديات الفاسدة أنواع. منها ما لا يشكل فساده على أحد. ومنها ما يكون (بزيادة وصف في الأصل به يقع الفرق. ومنها ما يكون) بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا. ومنها ما يكون استدلالا بالنفي والعدم. وبيان النوع الأول: فيما علل به بعض أصحاب الشافعي لكون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة لانها عبادة ذات أركان لها تحليل وتحريم، فكان من أركان ما له عدد السبع كالحج في حق الطواف، وربما يقولون: الثلاث أحد عددي مدة المسح فلا يتأدى به فرض القراءة في الصلاة كالواحد، وما دون الثلاث قاصر عن السبع فلا يتأدى به فرض القراءة كما دون الآية. ونحو ما يحكى عن بعضهم في أن الرجعة لا تحصل بالفعل، لأن الوطئ فعل ينطلق مرة ويتعلق أخرى فلا تثبت به الرجعة كالقتل. ونحو ما يحكى عن بعض أصحابنا في الوضوء بغير النية أن هذا حكم متعلق بأعضاء الطهارة فلا تشترط النية في إقامته كالقطع في السرقة والقصاص. هذا النوع مما لا يخفى فساده على أحد، ولم ينقل من هذا الجنس شئ عن السلف إنما أحدثه بعض الجهال ممن كان بعيدا من طريق الفقهاء، فأما علل السلف ما كانت تخلو عن الملاءمة أو التأثير، ولهذا كان الواحد منهم يتأمل مدة فلا يقف في حادثة إلا على قياس أو قياسين، والواحد من المتأخرين ربما يتمكن في مجلس واحد من أن يذكر في حادثة خمسين علة من هذا النحو أو أكثر، ولا مشابهة بين غسل الاعضاء في الطهارة وبين القطع في السرقة، ولا بين مدة المسح والقراءة في الصلاة، ولا بين الطواف بالبيت وقراءة الفاتحة، فعرفنا أن هذا النوع مما لا يخفى فساده. وأما ما يكون بزيادة وصف فنحو تعليل بعض أصحاب الشافعي في مس الذكر إنه حدث، لانه مس الفرج فينتقض الوضوء به كما لو مسه عند البول، فإن هذا القياس لا يستقيم إلا بزيادة وصف في الأصل وبذلك الوصف يثبت الفرق بين الفرع والأصل ويثبت الحكم به في الأصل. وكذلك قولهم في إعتاق المكاتب عن الكفارة إنه تكفير بتحرير المكاتب فلا يجوز، كما لو أدى بعض بدل الكتابة ثم أعتقه، لأن استقامة هذا القياس بزيادة وصف في الأصل به يقع الفرق، وهو أن المستوفى من البدل يكون عوضا، والتكفير لا يجوز بالاعتاق بعوض. ونحو ما علل بعضهم في شراء الاب بنية الكفارة إنه تكفير بتحرير أبيه فلا يجوز، كما لو كان حلف بعتقه إن ملكه، فإن استقامة هذا التعليل بزيادة وصف به يقع الفرق من حيث إن المحلوف بعتقه إذا عتق عند وجود الشرط لا يصير مكفرا به وإن نواه عند ذلك أبا كان أو أجنبيا. والنوع الثالث: نحو ما يعلل به بعض أصحاب الشافعي في أن الاخ لا يعتق على أخيه إذا ملكه. قال: عتق الاخ تتأدى به الكفارة فلا يثبت بمجرد الملك كعتق ابن العم. وهذا تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا، فإن عندنا عتق القريب وإن كان مستحقا عند وجود الملك تتأدى به الكفارة حتى قلنا: إذا اشترى أباه بنية الكفارة يجوز، خلافا للشافعي رحمه الله. ونحو ما علل به بعضهم في الكتاب الحالة أنها لا تمنع جواز التكفير بتحريره فتكون فاسدة كالكتابة على القيمة، فإن هذا تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا، لأن التكفير بإعتاق المكاتب كتابة صحيحة جائزة عندنا، وربما يكون هذا الاختلاف في الأصل نحو ما يعلل به بعض. أصحاب الشافعي في الافطار بالاكل والشرب إنه إفطار بالمطعوم، فلا يوجب الكفارة كما لو كان في يوم أبصر الهلال وحده ورد الامام شهادته. وأما النوع الرابع: فنحو تعليل الشافعي في النكاح إنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال لانه ليس بمال، وفي الاخ لا يعتق على أخيه لانه ليس بينهما بعضية، وفي المبتوتة إنه لا يلحقها الطلاق لانه ليس بينهما نكاح، وفي إسلام المروي بالمروي إنه يجوز لانه لم يجمع البدلين الطعم والثمنية، وهذا فاسد لانه استدلال بعدم وصف والعدم لا يصلح أن يكون موجبا حكما، وقد بينا أن العدم الثابت بدليل لا يكون بقاؤه ثابتا بدليل فكيف يستدل به لاثبات حكم آخر. فإن قيل: مثل هذا التعليل كثير في كتبكم. قال محمد رحمه الله: ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف لانه ليس بمال، والزوائد لا تضمن بالغصب لانه لم يغصب الولد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: العقار لا يضمن بالغصب لانه لم ينقله ولم يحوله. وقال فيما لا يجب فيه الخمس: لانه لم يوجف عليه المسلمون. وقال في تناول الحصاة: لا تجب الكفارة لانه ليس بمطعوم. وقال في الجد: لا يؤدي صدقة الفطر عن النافلة لانه ليس عليه ذلك. فهذا استدلال بعدم وصف أو حكم. قلنا: أولا هذا عندنا غير مذكور على وجه المقايسة بل على وجه الاستدلال فيما كان سببه واحدا معينا بالاجماع نحو الغصب، فإن ضمان الغصب سببه واحد عين وهو الغصب، فالاستدلال بانتفاء الغصب على انتفاء الضمان يكون استدلالا بالاجماع. وكذلك وجوب ضمان المال بسبب يستدعي المماثلة بالنص وله سبب واحد عين وهو إتلاف المال، فيستقيم الاستدلال بانتفاء المالية في المحل على انتفاء هذا النوع من الضمان، وكذلك إذا كان دليل الحكم معلوما في الشرع بالاجماع نحو الخمس فإنه واجب في الغنيمة لا غير وطريق الاغتنام الايجاف عليه بالخيل والركاب، فالاستدلال به لنفي الخمس يكون استدلالا صحيحا، وقد بينا أنه إبلاء العذر في بعض المواضع لا الاحتجاج به على الخصم. فأما تعليل النكاح بأنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال يكون تعليلا بعدم الوصف وعدم الوصف لا يعدم الحكم لجواز أن يكون الحكم ثابتا باعتبار وصف آخر، لانه وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما يثبت مع الشبهات والأصل المتفق عليه الحدود والقصاص، وبهذا الوصف لا يصير النكاح بمنزلة الحدود والقصاص حتى يثبت مع الشبهات بخلاف الحدود والقصاص، فعرفنا أن بعدم هذا الوصف لا ينعدم وصف آخر يصلح التعليل به لاثباته بشهادة النساء مع الرجال. وكذلك ما علل به من أخوات هذا الفصل فهو يخرج على هذا الحرف إذا تأملت. فصل ومن هذا النوع الاحتجاج بأن الاوصاف محصورة عند القائسين، فإذا قامت الدلالة على فساد سائر الاوصاف إلا وصفا واحدا تثبت به صحة ذلك الوصف ويكون حجة. هذا طريق بعض أصحاب الطرد. وقد جوز الجصاص رحمه الله تصحيح الوصف للعلة بهذا الطريق. قال الشيخ رحمه الله: وقد كان بعض أصدقائي عظيم الجد في تصحيح هذا الكلام، بعلة أن الاوصاف لما كانت محصورة وجميعها ليست بعلة للحكم بل العلة وصف منها، فإذا قام الدليل على فساد سائر الاوصاف سوى واحد منها ثبت صحة ذلك الوصف بدليل الاجماع كأصل الحكم، فإن العلماء إذا اختلفوا في حكم حادثة على أقاويل، فإذا ثبت بالدليل فساد سائر الاقاويل إلا واحدا ثبت صحة ذلك القول، وذلك نحو اختلاف العلماء في جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه، فإنا إذا أفسدنا قول من يقول بالرجوع إلى قول القائف، وقول من يقول بالقرعة، وقول من يقول بالتوقف إنه لا يثبت النسب من واحد منهما يثبت به صحة قول من يقول بأنه يثبت النسب منهما جميعا. وإذا قال لنسائه الاربعة: إحداكن طالق ثلاثا ووطئ ثلاثا منهن حتى يكون ذلك دليلا على انتفاء المحرمة عنهن تعين بها الرابعة محرمة، فكان تقرب هذا من الادلة العقلية. قال الشيخ: وعندي أن هذا غلط لا نجوز القول به، وهو مع ذلك نوع من الاحتجاج بالدليل. أما بيان الغلط فيه وهو أن ما يجعله هذا القائل دليل صحة علته هو الدليل على فساده، لانه لا يمكنه سلوك هذا الطريق إلا بعد قوله بالمساواة بين الاوصاف في أن كل وصف منها صالح أن يكون علة للحكم، وبعد ثبوت هذه المساواة فالدليل الذي يدل على فساد بعضها هو الدليل على فساد ما بقي منها، لانه متى علم المساواة بين شيئين في الحكم ثم ظهر لاحدهما حكم بالدليل فذلك الدليل يوجب مثل ذلك الحكم في الآخر، كمن يقول لغيره: اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول أعط زيدا درهما، يكون ذلك تنصيصا على أنه يعطي عمرا أيضا درهما، فعرفنا أنه لا وجه للتحرز عن هذا الفساد إلا ببيان تفاوت بين هذا الوصف وبين سائر الاوصاف في كونه علة للحكم، وذلك التفاوت لا يتبين إلا ببيان التأثير أو الملاءمة فيضطر إلى بيانه شاء أو أبى، ثم وإن قام الدليل على فساد سائر الاوصاف على وجه لا عمل لذلك الدليل في إفساد هذا الوصف الواحد، فنحن نتيقن أن ذلك الدليل كما لا يوجب فساد هذا الوصف لا يوجب صحته، فلا يبقى على تصحيح هذا الوصف دليلا سوى أنه لم يقم الدليل على فساده، ولو جاز إثبات الوصف موجبا للحكم بهذا الطريق لجاز إثبات الحكم بدون هذا الوصف بهذا الطريق، وهو أن يقول حكم الحادثة كذا لانه لم يقم الدليل على فساد هذا الحكم، وما قاله من الاستدلال بالحكم فهو وهم، لأن بإفساد مذهب الخصم لا يثبت صحة مذهب المدعي للحكم بوجه من الوجوه، وكيف يثبت ذلك والمبطل دافع والمدعي للحكم مثبت وحجة الدفع غير حجة الاثبات. ثم الدليل على أن بقيام دليل الفساد في سائر الاوصاف لا تثبت صحة الوصف الذي ادعاه المعلل في الشرعيات أن من أحكام الشرع ما هو غير معلول أصلا بل الحكم فيه ثابت بالنص، فبقيام الدليل على فساد سائر الاوصاف لا ينعدم احتمال قيام الدليل على فساد هذا الوصف حقيقة ولا حكما من هذا الوجه، لجواز أن يكون هذا النص غير معلول أصلا، وبه فارق العقليات، ثم احتمال الصحة والفساد في هذا الوصف بالاجماع كان مانعا من جعله حجة لاثبات الحكم قبل قيام الدليل على فساد سائر الاوصاف، فكذلك بعده لأن احتمال تعينه قائم. باب: وجوه الاعتراض على العلل قال رضي الله عنه: العلل نوعان: طردية ومؤثرة. والاعتراض على كل نوع من وجهين: فاسد وصحيح. فالاعتراضات الفاسدة على العلل المؤثرة أربعة: المناقضة، وفساد الوضع، ووجود الحكم مع عدم العلة، والمفارقة بين الأصل والفرع. والصحيحة أربعة: الممانعة، ثم القلب المبطل، ثم العكس الكاسر، ثم المعارضة بعلة أخرى. فأما المناقضة فإنها لا ترد على العلل المؤثرة، لأن التأثير لا يتبين إلا بدليل الكتاب أو السنة أو الاجماع. وهذه الادلة لا تتناقض، فإن أحكام الشرع عليها تدور ولا تناقض في أحكام الشرع، وقد بينا أنه لا توجد العلة بدون الحكم على الوجه الذي ظهر أثرها في الحكم، بل لا بد أن ينعدم الحكم لتغير وصف بنقصان أو زيادة، وبه تتبدل العلة فتنعدم العلة المؤثرة التي أثبت المعلل الحكم بها، وانعدام الحكم عند انعدام العلة لا يكون دليل انتقاض العلة. وهو نظير الشاهد فإنه مع استجماع شرائط الاداء إذا ترك لفظة الشهادة أو زاد عليها فقال فيما أعلم فإنه لا يجوز العمل بشهادته، وكان ذلك باعتبار انعدام العلة الموجبة للعمل بشهادته معنى. وبيان هذا أنا إذا عللنا في تكرار المسح بالرأس أنه مسح مشروع في الطهارة فلا يستن تثليثه كالمسح بالخف لا يدخل الاستنجاء بالاحجار نقضا، لأن المسح هناك غير مشروع في الطهارة إنما المشروع إزالة النجاسة العينية حتى لو تصور خروج الحدث من غير أن يتنجس شئ مما هو طاهر لم يجب المسح أصلا، وإزالة النجاسة غير المسح وهو لا يحصل بالمرة إلا نادرا، فعرفنا أن انعدام الحكم لانعدام العلة. وأما فساد الوضع فهو اعتراض فاسد على العلة المؤثرة، لانه دعوى لا يمكن تصحيحها، فإن تأثير العلة إنما يثبت بدليل موجب للحكم كما بينا، ومعلوم أنه لا يجوز دعوى فساد الوضع في الكتاب والسنة والاجماع. وأما وجود الحكم مع عدم العلة فإن الحكم يجوز أن يكون ثابتا بعلة أخرى، لأن ثبوته بعلة لا ينافي كونه ثابتا بعلة أخرى، ألا ترى أن الحكم يجوز أن يثبت بشهادة الشاهدين، ويجوز أن يثبت بشهادة أربعة حتى إذا رجع اثنان قبل القضاء يبقى القضاء واجبا بشهادة الباقيين. وكذلك يجوز أن يكون الأصل معلولا بعلتين يتعدى الحكم بإحداهما إلى فروع وبالاخرى إلى فروع أخر فلا يكون انعدام العلة مع بقاء الحكم في موضع ثابتا بالعلة الاخرى دليل فساد العلة. فأما المفارقة فمن الناس من ظن أنها مفاقهة، ولعمري المفارقة مفاقهة ولكن في غير هذا الموضع، فأما على وجه الاعتراض على العلل المؤثرة تكون مجادلة لا فائدة فيها في موضع النزاع. وبيان هذا من وجوه ثلاثة: أحدها أن شرط صحة القياس لتعدية الحكم إلى الفروع تعليل الأصل ببعض أوصافه لا بجميع أوصافه، وقد بينا أنه متى كان التعليل بجميع أوصاف الأصل لا يكون مقايسة، فبيان المفارقة بين الأصل والفرع بذكر وصف آخر لا يوجد ذلك في الفرع ويرجع إلى بيان صحة المقايسة، فأما أن يكون ذلك اعتراضا على العلة فلا. ثم ذكر وصف آخر في الأصل يكون ابتداء دعوى والسائل جاهل مسترشد في موقف المنكر إلى أن تتبين له الحجة لا في موضع الدعوى، وإن اشتغل بإثبات دعواه فذلك لا يكون سعيا في إثبات الحكم المقصود وإنما يكون سعيا في إثبات الحكم في الأصل وهو مفروغ عنه، ولا يتصل ما يثبته بالفرع إلا من حيث إنه ينعدم ذلك المعنى في الفرع وبالعدم لا يثبت الاتصال، وقد بينا أن العدم لا يصلح أن يكون موجبا شيئا، فكان هذا منه اشتغالا بما لا فائدة فيه. والثالث ما بينا أن الحكم في الأصل يجوز أن يكون معلولا بعلتين ثم يتعدى الحكم إلى بعض الفروع بإحدى العلتين دون الاخرى، فبان انعدام في الفرع الوصف الذي يروم به السائل الفرق، وإن سلم له أنه علة لاثبات الحكم في الأصل فذلك لا يمنع المجيب من أن يعدي حكم الأصل إلى الفرع بالوصف الذي يدعيه أنه علة للحكم، وما لا يكون قدحا في كلام المجيب فاشتغال السائل به يكون اشتغالا بما لا يفيد، وإنما المفاقهة في الممانعة حتى يبين المجيب تأثير علته، فالفقه حكمة باطنة، وما يكون مؤثرا في إثبات الحكم شرعا فهو الحكمة الباطنة، والمطالبة به تكون مفاقهة، فأما الاعراض عنه والاشتغال بالفرق يكون قبولا لما فيه احتمال أن لا يكون حجة لاثبات الحكم، واشتغالا بإثبات الحكم بما ليس بحجة أصلا في موضع النزاع وهو عدم العلة، فتبين أن هذا ليس من المفاقهة في شئ، والله أعلم.
|